زحمةِ الحياة ومع تراكُم مشاغلِ الدنيا وتواليها قد يغفَل الإنسانُ عن وظيفته الأساسِ التي من
أجلِها وُجد والغايةِ التي لها خلِق ووُلِد، ألا وهي عبادةُ الله سبحانه وطاعته:
{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56].
فأرسلَ الله الرسلَ وأنزل الكتبَ وخلق للإنسانِ وسخَّر له ما في السّموات والأرض كلُّ ذلك لأجلِ
القيام بحقِّ العبودية ومقتضياتِها لله سبحانه، ووعَد بالجنّة من أطاعه، وتوعَّد بالنار من عصاه،
وأخبر جلَّ في علاه أنه سيأتي يومٌ تُعْرَض الخلائقُ فيه على الله وتُنشَر الصحف وتوزَن الأعمال،
فينظر كلٌّ لميزانه بإشفاقٍ ووجَل، يتمنَّى كمالَ عملِه وحُسنَ ما قدَّم، علّ ميزانَه أن يَثقُلَ بالحسنات.
سيأتي يومٌ يكون الحساب والجزاءُ فيه بالأعمال، وللذّرّة قيمةٌ وميزان، وللحَسَنة تأثيرٌ يشحّ بها المرءُ
على أمّه وأبيه وزوجِه وبنيه وأخيه:
{وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى*يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [الفجر:23،24]، فما مِن أحدٍ إلاَّ سَيندَم، فالمقصِّر يندَم على تقصِيره، والعامِل يندَم أن لم يكن قد ازدادَ.
في يومِ القيامةِ مواقِفُ وعرَصاتٌ وأهوال وكُرُبات ووزنٌ للحسناتِ والسيّئات، لن ينجوَ منها إنسٌ ولا جانّ إلاَّ بالعَمَل إذا رحِمه الرحيم الرحمن، فماذا قدّمت لحياتك الأخرى يا عبدَ الله؟! ما مقدارُه ونوعُه؟! وما مدى كَمالِه وتمامِه؟!
رَوى لنا معاذُ بن جبلٍ رضي الله عنه أنّ النبيَّ-صلى الله عليه وسلم-أخذ بيدِه وقال: (يا مُعاذ، والله
إنِّي لأحبّك، أوصيكَ يا معاذ: لا تدعنَّ في دبُر كلِّ صلاة تقول: اللهمّ أعنِّي على ذكرِك وشُكرك وحسنِ
عبادتك) رواه أبو داود في سننه بإسناد صحيح.
فهذا إرشادٌ نبويّ كريم بأن ندعوَ الله بعد الفراغِ من الصلاة ونسألَه حُسنَ عبادته، وقبل ذلك يقول الحقّ-سبحانه وتعالى-: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك:2]،
فدَلّ النصّان الكريمانِ على أنّ حُسْنَ العبادةِ مرتَبَة زائدةٌ على مجرَّد أدائِها، ولأجلِ ذلك فإنّ العبادةَ الكامِلة الحسنةَ تؤتي ثمارَها وتبلُغ بالعبدِ منازلَ عظيمة من القَبول والمثوبةِ والمغفرة والجزاءِالحسن وفي صحيح مسلِم أنّ عثمانَ بن عفان-رضي الله عنه-قال: سمعتُ رسول الله-صلى الله عليه وسلم-يقول: (ما مِن امرئٍ مسلم تحضرُه صلاةٌ مكتوبة فيُحسِن وضوءَها وخشوعَها وركوعَها إلاَّ كانت كفّارةً لما قبلَها من الذنوبِ ما لم تُؤتَ كبيرةٌ، وذلك الدهرَ كلَّه).
ولئن كان الكثيرُ من المسلمِين حريصين على أَداءِ عباداتهم وما افترَضَه الله عليهم، فإنّ القليلَ منهم هم الحرِيصون على أدائِها بإحسانٍ، كاملةَ السُّنَن والواجباتِ والأركانِ، سالمةً من الخلَلِ والنقصان. وايمُ الله، إنّ المسلمَين ليخرُجان متوضِّئين للصلاة، ساعِيَين إلى المسجدِ، يصلِّيان خلفَ إمامٍ واحد، ينصرِفان من صلاتَيهِما وبَينهما كما بين السماءِ والأرض في المثوبةِ والجزاء، واسمَعوا حديثَ عمّار بنِ ياسر-رضي الله عنه-قال: سمعتُ رسولَ الله-صلى الله عليه وسلم- يقول: (إنَّ الرّجلَ لينصرِف وما كُتِب له إلاَّ عُشرِ صلاتِه، تُسعها، ثُمنها، سُبعُها، سُدسُها، خُمسها، ربعُها، ثُلثُها، نِصفُها) رواه أبو داود بإسنادٍ حسن كما أخرجه الإمام أحمد في مسنده، بل إنّ من المصلَّين من تُلَفّ صلاتُه كثوبٍ خلِق، فيُرْمَى بها في وجهِه، وقد قال النبيّ-صلى الله عليه
وسلم-لرجلٍ: (ارجِع فصلِّ؛ فإنّك لم تصلِّ)، مع أنّه أتى بأفعالِها الظاهرة. إنّ مما ينبغي للمسلِم معرفتَه واستحضاره أنّ للواجباتِ والمفروضات من العبادات جانبَين: جانب الإجزاء وجانب الجزاء، فإذا أدّى المسلمُ عبادتَه الواجبة برِئت ذمّتُه منها وأجزأَته، وأصبحَ غيرَ مطالَبٍ بها، أما الجزاء فهو المثوبة والأجرُ المترتِّب على أداء هذه العبادة، فقد يتساوَى عابدان في الإجزاء ويختلِفان كما بين المشرقِ والمغرب في الجزاء، وهذا الاختلاف والتباينُ مردُّه إلى حِرصِ أحدهما على حسن عبادته وتمامها وتقصيرِ الآخر فيها.
عباد الله، حقٌّ على كلِّ مسلِمٍ يرجو لقاءَ الله يطمَع في جنّتِه ويستجير به من نارِهِ أن يسعَى لإحسانِ عمَله في تمامٍ وكَمال يسُرّه ويُنجيه يومَ تبيَّض وجوهٌ وتسوَّد وجوه، وإليكم بعضَ ما تحسُن به العبادَة: * فأوَّلُ ذلِك ورأسُه شرطُ صحَّتها وهو الإخلاصُ لله والمتابعةُ لرسوله-صلى الله عليه وسلم-، فذالكم هو مقتضَى الشهادتين. والمرادُ بالإخلاص نوعاه العامّ والخاص: فالعامّ أن لا يكونَ العبدُ متلبِّسًا بشيء من الشّرك في حياته: كدعاءِ غيرِ الله، أو الاستغاثةِ، أو الاستعانة بغيرِه، أو صَرف شيءٍ من العبادات لغيرِ الخالق الواحِد-سبحانه وتعالى-، وهذا بابٌ عظيم
ينبغي العنايةُ به، فقد قال الله-تعالى-لرسوله الكريم: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ*بَلْ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنْ الشَّاكِرِينَ} [الزمر:65، 66].
فهو دليلٌ على أنّ الشركَ لا ينفع معه عملٌ، فالواجب على المسلم أن يتفقَّد نفسَه دومًا، وأن يوحِّدَ الله في كل شؤونه.
وأمّا النوع الثاني وهو الخاصّ مما ينبغي العنايةُ به في جانبِ الإخلاص فهو أن تكونَ العبادةُ المؤدّاة سالمةً منَ الرّياء مُرادًا بها وجه الله وحدَه، وفي الحديث القدسيّ: (قال الله-تبارك وتعالى-: أنا أغنى الشّركاء عن الشركِ، من عمِل عملًا أشرك فيه معِيَ غيري تركتُه وشركه) رواه مسلم.
* أمّا الشرط الثاني من شروطِ صحّة العبادةِ فهو المتابعةُ لرسول الله-صلى الله عليه وسلم-، والمراد بها تأديةُ العبادة على الصّفةِ التي جاءت عن النبيّ-صلى الله عليه وسلم- مِن غير زيادةٍ ولا نقصان. ومعنى هذا أنه لا يجوزُ أن يعبَد الله إلاَّ بما شرعه رسول الله-صلى الله عليه وسلم-مبلِّغًا عن ربه، فالتعبّد بما لم يشرعه الله ولم يرِد صحيحًا عن رسول الله-صلى الله عليه وسلم-هو البدعة التي قال عنها النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديثِ عائشة-رضي الله عنها-: (من عمِل عملًا ليس عليه أمرُنا فهو رد) رواه البخاري ومسلم،وفي رواية البخاريّ: (من أحدَث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ)،والله-تعالى-يقول: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21]، وقالَ سبحانه: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا} [هود:112].
وثمّةَ أمر آخر يتعلَّق بالمتابعةِ وهو أنّ العابدَ قد يؤدِّي عبادتَه كما أمِر لكنه ينقص من سننِها ويجتزِئ من واجبها، وقد تتخلَّلُها بعضُ المكروهات أو يداخِلها شيء من المحرَّمات، فهذه العبادةُ وإن أجزأت إلاّ أنّه ينقُص من ثوابها بمقدارِ ما نقَص من حسنِها. والغبنُ كلّ الغَبن أن يفعلَ الإنسان ما يفعلُه غيرُه ثم يأخذ أجرَه أنقصَ بكثيرٍ من صاحبهِ، بل ربما لم يأخُذ من ثوابِه شيئًا، وربما فعَل العبدُ فعلًا يريدُ به من الله الزلفى على هيئةٍ لم يشرعْها الله تعالى ولم ترِد عن رسولِه الكريم، فيقصِيه الله بهذا العمل، ويكتبه في عِداد المبتدعِين شبيهًا بالضّالين.
* ومما تحسُن به العباداتُ الواجباتُ تكميلُها بالنوافلِ التي من جِنسِها، فأركانُ الإسلام مثلًا عباداتٌ متحتِّمات، ومِن جنسها نوافلُ ومستحبَّات، كنوافلِ الصلاة من رواتبَ وصلاةِ ليلٍ ووِتر، وكنوافل الصيامِ مِن صيام الاثنينِ والخميسِ وستّ شوّال وعاشوراء وعرَفة، وكذلك نوافل الإنفاق في سبيل الله في عموم وجوهِ الخير فوق الزكاة الواجبةِ، ونافلة الحجّ وغير ذلك، فكلُّ ما سبق جابرٌ لما نقَص من الفرائض والواجباتِ، كما في الحديثِ القدسيّ الذي رواه الترمذيّ وابن ماجه بإسنادٍ صحيح: (أنّ الله-عزّ وجلّ-يقول يومَ القيامة: انظروا هل لعبدي من تطوّع، فيُكمَّل بها ما انتقَص من الفريضة).
* ومَن إحسان العمل حَفظُ الحسنات من الضياع، وتجنُّب ما يبطِل الثوابَ وينقص الجزاء، وقد قال
الحقّ-سبحانه-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد:33]،
في إشارةٍ إلى أنّ المعصيّةَ قد تبطل العمل، وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى} [البقرة:264]،
وفي صحيحِ مسلم عن النبيّ-صلى الله عليه وسلم-أنّ رجلًا قال: (واللهِ، لا يغفِر الله لفلان، فقال الله- عز وجل-: من ذا الذي يتألَّى عليّ أن لا أغفرَ لفلان، إني قد غفرتُ له وأحبطتُ عملَك)،قال أبو هريرة-رضي الله عنه-: تكلّم بكلمةٍ أوبقت دنياه وآخرته،وفي الصحيحين أنّ النبيَّ-صلى الله عليه وسلم-قال: (إنَّ الرجلَ ليتلَّكم بالكلِمةِ ما يتبيَّن فيها يزلّ بها في النّارِ أبعدَ مما بينَ المشرقِ والمغرِب). فهل يعِي هذا من أطلقَ لسانَه وأرخى للكلامِ عنانَه، لا يبالي بما قال وكتَب؟! هل يعي هذا من يتخوَّضون في دينِ الله بلا عِلم ويعترِضونَ شريعتَه وحكمَه بما استحسَنوه من منطقهم؟! أم هل يزدَجِر بهذا من يستطيل في أعراضِ المسلمين سواء بالدّعوةِ إلى الفاحشة أو بالغيبة والنّميمة والكذب وشهادةِ الزور؟! إنّ آفاتِ اللسانِ كثيرةٌ وخطيرة، ومن أخطرِها ما يحمِل لَفظًا شركيًّا أو تسخُّطًا على أقدار الله واعتراضًا على حكمه، وقد قال الله-تعالى-عن المشركين:
{وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23].
* ومما يضيعُ الحسناتِ ويجلِب الحسرات الظلمُ والتعدّي على عباد الله بغير حق وأكلِ أموال الناس بالباطل، ففي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قالَ رسولُ الله-صلى الله عليه وسلم-: (أتدرونَ منِ المفلِس؟) قالوا: المفلِس فينا من لا دينارَ ولا درهمَ له ولا متاع، فقال: (المفلسُ من
أمّتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيامٍ وزكاة، ويأتي وقد شتَم هذا، وقذف هذا، وأكَل مالَ هذا، وسفكَ دمَ هذا، وضرَب هذا، فيعطَى هذا من حسناتِه وهذا من حسناتِه، فإن فنِيت حسناتُه قبل أن يقضيَ ما عليه أخِذ من خطاياهم فطُرِحت عليه، ثمّ طرِح في النار) رواه مسلم،كما ورد أيضًا في الحديثِ عند أبي داود بسندٍ فيه مقال: (إنّ الحسَدَ يأكل الحسناتِ كما تأكل النار الحطَب).
إذا استشعَر المسلم أن هذه العبادةَ أمرُ الله وفيها رِضاه قد رضيَ سبحانه أن تكونَ من الإنسان زلفَى له وقربةً منه يرفَع بها الدرجاتِ ويمحو بها السيئاتِ؛ كان هذا أدعَى للإنسانِ أن يهتمَّ بعبادتِه ويعظِّمها ويجوِّدها ويحسّنَها، فيحذر المسلم من تقديمِ العبادة بشكلٍ هزيل أو مظهرٍ عليل؛ لأنّ الواجبَ تعظيم شعائر الله: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32].
ولذا كان الإحسان أعلى مراتبِ الدين لاستشعارِ مراقبة الله للعَبد كما في الحديث المخرَّج في الصحيحين أنّ النبيَّ-صلى الله عليه وسلم-قال: (الإحسانُ أن تعبدَ الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه،
فإنه يراك).
قال النوويّ-رحمه الله تعالى-: "هذا من جوامع الكلِم التي أوتيَها النبيّ-صلى الله عليه وسلم-؛ لأنّا لو قدّرنا أنّ أحدَنا قام في عبادةٍ وهو يعايِن ربَّه-سبحانه وتعالى-؛ لم يترُك شيئًا ممّا يقدِر عليه من الخضوعِ والخشوع وحسنِ السَّمت واجتماعِه بظاهره وباطنه على الاعتناءِ بتتميمها على أحسنِ وجوهها إلاَّ أتى به".فالتتمِيم المذكورُ في حالِ العيانِ إنما كان لعِلم العبد باطلاع الله- سبحانه-عليه، فلا يقدِم العبدُ على تقصيرٍ في هذا الحال، وإذا كانَت مجالسةُ الصالحين مندوبةً؛ لتكونَ مانعًا من تلبُّس الإنسانِ بشيءٍ من النقائصِ احترامًا لهم واستحياءً منهم، فكيف بمن لا يزالُ الله تعالى مطَّلعًا عليه في سرّه وعلانيته؟! ومن أحسنَ الظنَّ بالله أحسنَ العمل، ومن أحسن القصد أحسن العمل.
المصدر: موقع المنبر
للشيخ: صالح بن محمد آل طالب -حفظه الله-